فريد بشارة نعمة، الذي عُرف طيلة حياته باسم فريد بشور – أبو مرهج - واحدٌ من ألمع فرسان الشعر المحكي الغنائي المرتجل. له ما يزيد على ألف بيت ومقطوعة شعرية مسجلة وموثقة ، وأعتقد أن ما فات تسجيله علينا من أشعاره يفوق هذا العدد مرات عدّة.
وُلدَ الشاعر فريد بشور عام 1926 في السقيلبية ، التي كانت ما تزال تلك الضيعة الصغيرة ذات الدور الطينية البيض، تُطلّ من فوق تلٍ ناهضٍ حصين على غور الغاب. ضيعةٌ تزاحمت دورها والتصق بعضها ببعض إلفةً وتعاضداً أيام الزمن الصعب – زمن الاحتلال- حين كانت هوية الوطن الكبير غائبةٌ وحدوده منكمشةٌ إلى ما داخل حدود الضيعة الواحدة – الضيعة الوطن الصغير- ... حين كانت بضع أفواج من شباب الضيعة قد رحلت إلى بلاد المهجر في البرازيل....
يحضرني من أقواله هذه الميجنا الرائعة :
يا ضَيعَتي يا ضَيعَتي يا ضَيعَتي راحوا الغَوالي وْ بَعد منهم ضَيعَتي
طِفْيتْ عيوني وْ صار فيها ضَي عتي ظَلمَه حَلوكِه والدهر بيّي انحنى
- ضَي عَتي : قديم ضعيف شحيح.
- حَلوكِه : ظلمةٌ حالكة.
كانت العتابا والميجنا غالباً تتصدر أغانينا . الآن تنوعت وتعددت الوسائل الإعلامية التي تعرض النِتاج الغنائي كثيراً، لكن ومع ذلك ، فما تزال العتابا والميجنا تملأ مرابعنا وليالينا وما زال الصبية والشبان في أريافنا يحفظون العتابا ويرددون الميجنا. وإني على يقين بأن بيتاً واحداً من العتابا الراقية يمكن أن يجمع بين رجلٍ من أهل حلبَ وآخر من لبنان وثالث من عَمان ورابع من بغداد في جلسة سمر سيطول ليلها على إثر هذا البيت. وإن بيتاً آخر يمكن أن يتسبب في ذرف دموع مجموعة من النسوة اجتمعن في مأتمٍ لا يمتّنّ لميته بأية صلة.
كانت العتابا تتصدّر أغانينا وكانت مبارزات شعّارها ميزة لأفراحنا وأعراسنا، وكم من الطرائف حملت حواراتهم وكم من فتنةٍ للروح أهدت كلماتهم ، فأبهجت وأطربت وأسكرت وأبكت. وما كل هذا السحر إلا لأنها شعرٌ في مجمله ارتجاليٌّ تدفق صادقاً بما خالج النفس من مشاعر إنسانية. إنها صورة الحقيقة لمشاعر وقيم الإنسان عندنا، إنها الأصالة.
لذلك أردت ، ومن خلال موقع السقيلبية، أن أصحبك عزيزي القارئ لنتذوق هذا النوع من الشعر الشعبي، فأقدم لك باقة مختارة من أشعار فريد بشور ، التي شملت من حيث الواقع أكثر من 20 موضوعاً جاءت على مدى حياته التي توقفت في 10نيسان من عام 1999: في التأمل ، في الغزل، في عتاب الأحبة وفي الوفاء، في المرأة والليل والخمرة ، في العود والوتر في نجوى الفؤاد والديار والضيعة، في العيد، في الهجر في الغياب، في النطاسيُّ المداوي ، وفي الرسائل مع حادي العيس مع الطير والنسمة والقمر، في فراق الأحبة ، في النجوى مع القمر المسافر في العيون الدامعة، في عتاب الزمن والدنيا والسماء، في خريف العمر والوحدة، وفي نجوى القبر ومحاكاة الموت ......... علني أوصل لك شيئاً عن قوام وخصال أحاسيسنا ومشاعرنا الإنسانية، وذلك عبر عدّة مقالات متلاحقة على هذا الموقع، متمنياً أنني سأقدم لك ما فاد من طيب الأدب والسلوى.
يقولون الهوى نكران للذات لكن يا عواشق بيه لذّات
وْ لِنّو هالقلب بليان للزات بيشفى بس يبتسموا لحباب
...................
وَني لا عاشر المرهون بَسْجون عمري وقول ليّا عقل بسْ جُنْ
ندر مني يَمقل العين بَسْ جون رَضيتْ المقل لو صابو عما
شاعرنا فريد بشور ( أبو مرهج ) كنتُ قد عرّفتُ به كأحد ألمع فرسان الشعر المحكي المرتجل، وبخاصة العتابا، وعرضتُ إلى أهمية هذا النوع من الشعر في تراثنا الغنائي الشعبي، وعدّدتُ الموضوعات التي شملها نتاج الشاعر في التأمّل والغزل وعتاب الأحبة والهجر والفراق وعتاب الدنيا والزمان والوحدة في خريف العمر ونجوى الليل والقمر....حتى الموت. وفي هذا المقال سأحاول تبيان أهم الخصائص التي تميزَ بها شعر فريد بشور، وذلك من خلال بعض الأمثلة القليلة في نظري، لأن نتاجه الضخم يصعب عرضه في بضع مقالات على موقع السقيلبية، بل يحتاج إلى مجلّد خاص به. من شعره في التأمّل:
غفي الليمون عاتب عا جْناتو
هلّي بْعطرْ دَيهِنْ عا جناتو
المُجنى عليه عاوَدْ عا جناتو
يِطالبهن بتزويد العذاب
هو ذا الليمونُ يغفو مغمضاً عينيه حزيناً عاتباً على من قطفه ( جناه ) ، ومن جناه ؟؟ إنهنّ النسوةُ اللاتي أكسبنه الرائحة العطرة من أياديهنّ أثناء القطاف. وها هو الليمون المُجنى عليه يطلب من المعذّب الجاني أن يزيد في هذا العذاب الرقيق .
هل لاحظت عزيزي القارئ شاعرية المطلع والربط المحكم في البيت وجمالية الصورة وكيف أن الشاعر يؤنسن الليمون فيجعله عاشقاً ولهاناً.
ومن شعره في الغزل اخترتُ ما يلي:
1- عيونك سودْ ورموشِكْ بهن سِرْ
وْ خدودِك نور للتايه بهن سر
يَ روحي لا بقى تْعلّي به نسيرْ
وْ خايف يخطفِك جنح العقاب
في عينيك والرموش السود سرٌ ، وفي خدّيكِ نورٌ يهتدي به السائر. فيا حبيبتي يكفي ارتقاءً بالجمال، فهناك نسرٌ فتيّ في سمائك، وإني لخائفٌ عليكِ من أن يطويك بين جناحيه.
نلاحظ هنا بريق الصورة وروعة الإيحاء واختزال الكلام وجمالية الغزل الراقي في هذا البيت.
2- (( يا عاقد الحاجبين على الجبين اللجين...)) غنتها فيروز، ووصف بعض الشعراء كيف أن اللقاء الأول مع الحبيبة كان عابساً، بل كان أحياناً سُباباً وشتيمةً . أما مع شاعرنا فريد بشور فسنلاحظ رشاقة الخيال في رسم تلك اللحظة العابسة الجميلة على وجه المحبوبة بتعبيرٍ سهلٍ ممتنع.
سَلبْ عقلي ظريف الطول لمّا
طْرافْ حْواجبو عا بعض لمّا
صرتْ أنده بعالي الصوت لمّا
ازخمي بنتِكْ رمتني بالعذاب
( لمّا : إلى أمها)
ومن شعره في هجر الأحبة:
مراكبهم سَرَتْ وبْقيتْ وَحْداي
أعدْ الموجْ وَحده بعدْ وَحداي
نحيبي تحملو الأرياح وحْداي
يلامس غيمها ويبكي الضباب
لقد برع الشاعر هنا في توظيف عناصر الطبيعة لرسم الصورة الجميلة الحزينة.
وفي عتابه للدنيا والزمان، قال:
1- مَرَاحْ بصدّقكْ دُنيا مدامِكْ
خؤونة وْ مُرْ للشاربْ مدامك
كيف عْلَى الصخرْ تبني مداميك
وْ عَلى الوجه الطري يغَبّرْ تراب
سوف لن أثق بك يا دنيا، فأنت خؤونة وطعم كأسك مرّ للإنسان. فكيف استطعتِ أن تبني صروح ( مداميك ) الحضارة وعجزتِ عن درء وجه الإنسان الجميل من الموت ( التراب ).
2- بْتسألني زمان الشينْ شبني
وْ من فعلك نواصي الراس شبني
كل ما خمدتْ النيران شَبني
أتونك نار تحرق بالعصب
وتسألني يا زمان السوء ( الشين ) ما بي، وأنت مَنْ أفعالُه صبغت نواصي رأسي بالشيب. كلما انطفأت نيران مصيبةٍ أجدكَ تُشبُّ نار فُرنك ( أتونك ) بي مرةً أخرى لتحرق بها عصبي.
3- زماني بالعطا الطيب بخلّي
وْ مَزجلي كاسَتي الحلوة بخلّه
عيوني انْ جفّتْ دموعا بخلي
غيوم الصيف تبكي عَ الحباب
كان زماني بخيلاً علي بالعطاء، لا بل مزجَ لي كأس أفراحي بمر الخل. قسماً لو جفّت دموع عيوني لجعلت غيوم الصيف تبكي على الأحبة.
دعنا الآن عزيزي القارئ نختتم مقالنا المختزل هذا بما قاله الشاعر فريد بشور في نجواه وحواره مع الفراق الأبدي ( مع القبر )، ولنستمع إلى حزنه العذب الرقيق الصادق من خلال معاناته برحيل زوجته....
1- عَلَيّ حين ما الأيام جاروا
بكي قلبي مَ في مخلوق جارو
طلبت من القبر تا صير جارو
رفضني وْ اكتفى بضم الحباب
عندما جارت الأيام بفراق الأحبة بكى قلبي ولم يكنْ بمقدور أحد أن يُجيرني من مُصابي، وطلبت من القبر أن أصبح جاراً لأحبتي فيه، فرفضني واكتفى بضمهم في أحضانه.
2- قبر يَ مْلملمْ الحلوين عندَكْ
أناني يا قبر مَ قْدرتْ عاندك
جايي أسألك يا قبر عن داك
الجبين وْ خوف قلبي من التراب
إيهٍ أيها القبر، يا من جمعت أحبتي. أنت أنانيّ، لم أستطع مجاراتك ( معاندتك ). فقط أتيت إليك أسألك عن ذاك الجبين البدر ، وكم أنا خائفٌ من أن يُعفّرَ ترابك ذاك الجبين.
3- كْتابي رْسَلتْ والمكتوب مردودْ
للّي باللحد يا دار مَردود
أسافة انْ كانْ عَ العينين مرْ دُودْ
اللحد يرعى جفونُنْ والهداب
أرسلتُ كتابي، ورسالتي مردّها ( وجهتها ) لمن هو في اللحد قد رُدّ. وا أسفي إن كان دود اللحد قد مرّ يرعى تلك العيون والجفون والأهداب.
هل هناك أسف لدى الإنسان أكبر من ذلك الأسف حين يستذكر جميل المحيا والخلق الإلهي البديع الذي أصبح اليوم حفنةً من تراب.
آمل عزيزي القارئ أن أكون استطعت تسليط الضوء من خلال ما تقدم على جوانب هامة تبين ميزات شعر العتابا الراقية بشكل عام ، وخصوصية هذا الشعر لدى شاعرنا فريد بشور.
الأربعاء مارس 10, 2010 12:28 am من طرف sakloobey