يتحرك سرب الأسماك كما لو كان كائنا حيا واحدا يتصرف ويقرر بشكل مستقل. ويمثل القرار السليم لسرب الأسماك مسألة حياة أو موت مثلما هو الحال مع أسماك السردين عندما تتعرض لهجمات اللصوص. يتصرف السرب كما لو كان ينفذ تعليمات قائد واحد، بيد أنه في واقع الأمر لا يوجد قائد يتبعه بقية أفراد السرب، وإنما يتخذ كل فرد قراره بنفسه. وبرغم هذا تأتي قرارات جماعية تنفذها كل الأسماك التي تسير مع السرب. ومن خلال الاستعانة بسمكة آلية حاول الباحث "ينس كراوسه" فهم كيفية حدوث هذه المسألة.
الذكاء الجماعي لا يحتاج إلى قائد
يعمل ينس كراوسه لدى معهد "لايبنيتس" في برلين حيث يقوم بإجراء أبحاث على السلوك البيولوجي، صنع كراوسه "سمكة آلية" مع فريق البحث العلمي، وتمكنوا من دسها وسط أسراب أسماك حقيقية لإجراء تجارب عليها. وبالضغط على زر يمكن للعلماء التحكم بحركة السمكة الآلية ويوجهونها يمينا ويسارا، ومن خلال ذلك يقومون برصد رد فعل بقية سرب السمك على قرار سمكة واحدة. وبعد بداية مترددة بدأت الأسماك الطبيعية في قبول السمكة الغريبة (الآلية) على الرغم من سلوكها الغريب، وفي النهاية بدأت الأسماك الأخرى تتبعها.
الفرد لا يعرف شيئا
وشرع العلماء من خلال تجربة أخرى في معرفة كيفية تحوّل القرارات الفردية إلى قرارات جماعية. فالسرب يجب الآن أن يختار واحدا من عدة خيارات ليتخذ قرارا سليما، ولكي لا تكون المسألة سهلة في البداية، يجب أن تدفع السمكة الآلية الأسماك الحقيقية إلى القيام بتصرف غريب عنها في الظروف العادية. فالسمكة الآلية ينبغي أن تجعلهم يصرفون الأنظار عن طعام مكوّن من كومة ديدان. في البداية أجريت التجربة داخل حوض أسماك، وكان السرب الذي تجرى التجربة عليه صغيرا ومكوّنا من سمكتين فقط إضافة إلى السمكة الآلية.
الجماعة لا تنخدع
انصرفت أنظار السرب الصغير عن كومة الديدان وتبع حركة السمكة الآلية التي جعلته يتخذ قرارا غير سليم. وفي المرحلة الثانية من التجربة دخلت السمكة الآلية في مواجهة مع عشر سمكات طبيعية. وفي هذه المرحلة تصرفت السمكة الآلية بنفس الطريقة كما في المرة الأولى، وكان السؤال هو "هل ستتمكن من خداع السرب الكبير هذه المرة كما حدث من قبل مع السرب الصغير؟" في هذا التجربة تبع السرب الكبير السمكة الآلية أيضا تجاه كومة الديدان، لكنه لم يصرف الأنظار عن الديدان، وشق سرب السمك طريقه بعيدا عن السمكة الآلية واتخذ قرارا ذكيا، وهذه النتيجة جرى التأكد منها من خلال تجارب أخرى.
استنتج ينس كراوسه أنه في الأحوال التي تتخذ فيها السمكة القائد قرارا خاطئا فإن سرب السمك لا يتبعها بالضرورة، إلا إذا تبع هذا القرار عدد آخر من الأسماك، لأن هذا يقنع بقية السرب بشكل أكبر. ويتحدث ينس كراوسه عما يسمى بالـ "الحدود المتدرجة"، إذ يجب أن تقوم نسبة معينة من أفراد السرب بتصرف معين، ومن ثم يتبعها بقية الأفراد. ويؤكد كراوسه أنه لا يكفي دائما أن يقوم أحد الأفراد بدور القيادة، وهذه مسألة ذات مغزى لأن الأفراد يمكن أن يتخذوا قرارات خاطئة، وتمنع قاعدة "الحدود الاجتماعية المتدرجة" الوقوع في الأخطاء. ويقول العلماء عن هذه الظاهرة إنها شكل من أشكال ذكاء أسراب الكائنات الحية.