أسعارها رخيصة، ونوعيتها تضمنها جهات رسمية، عمليات استيرادها تشرف عليها لجان مختصة، اللحامون يؤكدون الإقبال الواسع والانتشار السريع، والشارع السوري يتخوّف من عدم سلامتها وصلاحيتها للاستهلاك البشري.
إنها اللحوم المستوردة من بلدان ودول مختلفة، لحوم أغرقت السوق السورية، أتت إلينا من الهند والبرازيل ودول الخليج وأمريكا ولبنان، تدور حولها أسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة وشفافة، من يستوردها وكيف، من يستخدمها، وأين تنتشر؟
أزمة حقيقية:
لم تعد أسواق اللحوم في سوريا تفتخر بجودة ما تبيع، عندما كانت كاميرات الإعلام تلاحقها في كلّ مناسبة، لكونها الأكثر تميزاً، كما لم تستطع اليوم تلك السوق - على ما يبدو - الاحتفاظ بهيبة اللحوم التي طالما اشتهرت بها بين سائر دول المنطقة، لاسيما بعد الانفتاح على الأسواق ودخول أنواع متعددة من اللحوم، عجزت على منافستها بشكل أو بآخر، فركنت أكوام اللحمة السوريّة في زاوية محايدة تنتظر زبوناً من طبقة وحيدة، وأحياناً لا نجدها متوفرة فتكون قد صُدّرت.
تعيش سوق اللحمة أزمة حقيقية، فبين الارتفاع الهستيري لسعرها وبين نقص عرض المادة في السوق، ارتسم مشهد أعطى صورة سيئة عما يحدث في سوق بيع اللحوم، صورة ربما لم تكن في الحسبان ولم نشهدها قبل سنوات، فبتنا نرى مختلف أنواع اللحوم من مستورد ومهرّب ومجهول المصدر، تحوّلت تدريجياً إلى حالة لها تبعات سلبية كثيرة تزامنت مع عمليات ملئ السوق بمنتجات من شتى دول العالم.
ولا ضير في ذلك سوى ضعف آليات الرقابة عليها، الأمر الذي جعل من النصب والاحتيال شعار هذه السوق أحياناً، خاصة في ريف دمشق المتواري عن أنظار لجان التموين ودوريات حماية المستهلك وعناصر المحافظة.
لحوم مستوردة:
عندما تدخل إلى سوق اللحمة في باب الجابية، سترى عشرات المحلات التجارية (المرخصّة) رفعت لافتات تدلّ على نوع اللحمة المباعة (لحم جاموس مجمّد ومبرّد) استورد من الهند، ومحال أخرى اختصّت ببيع السمك الإماراتي وأخرى ارتأت بيع اللحم المستورد من البرازيل، يتراوح سعر الكيلو منه بين (150-200) ليرة، ليبدأ بالانخفاض حسب نوعه (كتف - فتيلة - هبرة - صدر) إلى جانب أنواع بكميات أقل ّمن اللحم الهندي استوردت من البارغواي.
تدور حول اللحوم المستوردة إشاعات كثيرة، تلاحقها أكثر من إشارة استفهام ويطرح على تجارها ومستوردها - الذين أفصحوا عن هويتهم للمرة الأولى وباتت أسماؤهم معروفة في سوق اللحمة - ألف سؤال وسؤال: هل هذا لحم صحي؟ هل يذُبح على الطريقة الإسلامية المعروفة والمتبعة عادة؟ ما دور مديريات الصحة في الإشراف على استيراده؟ لماذا لا ينال إعجاب البعض رغم كافة التطمينات التي تطلق بين الفينة والأخرى بأنه لحم مسحوق فوق درجة حرارة تبلغ (40) درجة مئوية، وأنه مراقب ونظامي، ويتداول في معظم دول العالم وسوريا واحدة منها.
يشير الأهالي في منطقة (باب مصلى) بتخوف وحذر شديدين إلى أطنان لحم الجاموس الذي علق أمامهم ويقررون أنّ سعر الجاموس كله دون ذبح لا يتجاوز (8000) ليرة سوريّة، وهذا يعني جني أرباح هائلة بعد طرحه في الأسواق.
لا يفضلونه رغم تأكيدات وزارة الأوقاف أنه مستورد تحت إشرافها وأنها شكلت لجنة فنية تضم مندوبين عن العديد من الجهات للإشراف على عمليات الذبح في الهند.
إنما كيف تبرر الجهات المعنية انتشار محال بيع اللحوم المستوردة في الريف البعيد وارتفاع أعدادها أكثر في المدينة، وإذا كان هذا اللحم نظامياً ولا غبار عليه، لماذا يتردّد على مسامعنا مصطلح جديد ظهر مؤخراً (لحم الفقراء السوريين).
ما يحدث في المطاعم:
أكثر من عشرين لحاماً سورياً في سوق (الزبلطاني) قرروا التوجّه إلى بيع اللحوم المجمدّة الآتية من الهند ولبنان والبرازيل وغيرها، فهامش ربحها أكبر وسوقها رائجة أكثر، ولا يهم عندهم من يشتري ومن لا يفعل، ومن يقتنع بها ومن يوجّه أصابع الاتهام لهم، لطالما أنّ اعتمادهم في تصريف بضاعتهم على أصحاب المطاعم والمنشآت السياحية ذوي التطلعات الجشعة، ويقولون ذلك علناً: (أصحاب المطاعم يشترون لحوماً مبردة بأطنان كثيرة ولا نعرف إذا كانوا يقدمونها على أساس أنها لحم بلدي أو عجل أو خروف؟).
في حين ينكر القائمون على أحد المطاعم في دمشق القديمة عدم استخدامهم لهذا النوع من اللحوم، مشددين أنهم لا يقدمون سوى لحم الخروف والعجل البلدي الذي يصل سعر كيلو منه أكثر من ألف ليرة، وبحوزة صاحبه فاتورة شهرية تثبت ذلك، وينوه إلى أنّ في كل أنحاء دمشق لا يوجد مطعم يقدم على غشّ اللحمة، وأنّ من يفعل ذلك يتواجد في مصايف بلودان والربوة والزبداني، مشيراً بأنّ مطاعم دمشق القديمة لا تدخل أي لحم جاموس ومثلجّ إلى مطابخها: (أنا زبوني من السياح والأجانب، يأتون إلى دمشق بحثاً عن طعامها الشعبي المعروف «مشاوي - كبب» لذلك لا يمكن بأي حال إدخال لحوم غير بلدية إلى مطعمنا رغم أن سعر الكيلو الواحد قد يصل إلى «1000» ليرة سوريّة وتهمنا سمعتنا في النهاية).
(سمعتنا) عبارة ربما يتناساها الكثيرون أمام إغراء رخص اللحوم المستوردة والمهربة، سمعة اللحمة السوريّة التي تقف الآن أمام خيارات متعددة: أما الانحسار والاقتصار على شريحة من الناس دون غيرها، وإما الدخول في مضاربة مع غيرها من اللحوم، وهذا ما يؤكده صاحب مطعم في سوق الحميدية بدمشق: (جاءتنا امرأة أردنية إلى المطعم تقول عندما كنا نزور دمشق كنا نثق باللحمة ونطلبها في أي مكان، أما الآن لا نعرف مصدرها ولا أين توجد اللحمة غير المغشوشة).
الأمر الذي يدعو إلى الدهشة، أن تلك السائحة الأردنية أكدت أنها أكلت لحماً هندياً عجل على أنه لحم بلدي في أشهر مطعم في دمشق، وهنا أكثر من تساؤل: إذا كانت السوق السوريّة تنفتح على الأسواق الخارجية وترغب بتحقق أكثر من خيار أمام المواطن، فلماذا لا تفرض الشروط نفسها، ففي الأردن مثلاً يمنع استيراد ما هو مرفوض في بلد آخر، بينما نسمع عن تجار سوريين يستوردون شحنات رفضت في دول الجوار بيعت بأسعار زهيدة، وأدخلت إلى القطر عبر منافذ حدودية أو نقاط التهريب. بحسب ما ينوه إلى ذلك مصدر في مديرية تجارة تموين ريف دمشق.
ثمّ لماذا لا تطالب الجهات المختصة أصحاب المحلات بوجود لائحة تبين نوع اللحمة، فأي سوبر ماركت في أية دولة في العالم يوضح منتجاته من اللحوم، إن كانت لحمة سوريّة أو هندية أو لبنانية! في حين تبين تقارير صادرة عن حماية المستهلك انتشار اللحم مجهول المصدر يعجز أصحابه عن تقديم بيانات جمركية صحيحة كما يحدث في حلب والحسكة.
عبر منافذ الحدود ونقاط التهريب:
يجب أن تضبط آلية التعامل مع اللحوم المستوردة، فهل يكفي مثلاً تشكيل لجنة خاصة تقوم بزيارة العديد من المسالخ المعتمدة للتصدير في الهند، وتطلع على أسلوب العمل ومدى تطبيق الاشتراطات الصحية العامة للذبح وتداول اللحوم؟ ثم تأتي إلى سوريا لتباع في أمكنة تجعلها تفسد قبل أن تصل إلى البيت، كما الحال في سوق الهال، وعندما تؤكد وزارة الاقتصاد باستمرار أن كل ما يدخل عبر الحدود النظامية لحوم سليمة وصالحة للاستهلاك البشري، في الوقت الذي تضبط (115) طناً من السمك منتهية الصلاحية وصلت إلى السوق قادمة من أمريكا، وتضبط في منطقة نصيب الحدودية (30) طن لحم جاموس مبرد مستورداً من الهند، ومرة أخرى تصادر (2000) طناً لحوم مهربة من إحدى دول الخليج، ومازالت حماية المستهلك والتموين تصادران كل يوم أطناناً من اللحوم غير صالحة للاستهلاك البشري علماً أنها حملت بيانات جمركية نظامية ومطابقة وتضبطها بعد أن تكون قد صلت إلى السوق السوريّة وتجاوزت مرحلة التداول.
وافقت وزارة الاقتصاد على استيراد اللحوم بعد موافقة غرفة التجارة شريطة رقابة لجان فنية مختصة، علماً أن أكثر من بائع لحوم يؤكد لنا عدم اختصاص من يراقب ويشرف، يقول (أبو علي) لحام في سوق باب الجابية بدمشق: (الذي يراقب عمليات الذبح وزارة الأوقاف لكن ما أن تصل إلى السوق لا يراقبها أحد، أحياناً قليلة يزورنا عناصر من التموين لا يعرفون اللحمة المغشوشة من غيرها).
بات الحديث عن وجود لحوم مهربة شائعاً في الأوساط السوريّة، البعض يتحدث بجرأة عن وجود لحمة مهربة من لبنان (بلوك) يتراوح سعر الكيلو (36 أو35) ليرة سوريّة يُباع في السوق بـ(125) ليرة سوريّة، ظاهرة تتفاقم في ريف دمشق رغم عمليات القمع والملاحقة، يوضح مدير تجارة وتموين الريف يوسف سرور: (صادرنا وأتلفنا كميات كبيرة تقدر بآلاف الأطنان من اللحمة «بلوك» غير صالحة للاستهلاك انتشرت في ضواحي دمشق).
خمسة لحامين باعوا لحم برازيلي مستورد ومجمد ونجحت معهم عمليات البيع على مدار أشهر، ثم سرعان ما تراجعوا عن بيعه بسبب عدم وجود زبون دائم له، فيما يقف بائع آخر في الجهة المقابلة وهو يفترش (بسطة) يبيع فيها سمك إماراتي مجمد ويشير إلى نسب إقبال لا بأس بها، علماً أنه فضّل وضعه على (بسطة) وفي الهواء الطلق وتحت الشمس: (نبيع كل يوم عشرة أطنان من السمك المستورد من دبي، رخيص يصل سعر الكيلو منه إلى «200» ليرة سوريّة، ولم نسمع أن أحداً ما توفي بسببه).
تأتي هذه التطمينات وسط مخاوف مديرية التجارة الداخلية من انتشار اللحوم المهربة ولاسيما اللحوم المفرومة وتوجه تحذيرات كبيرة منها: يقول سرور: (كل اللحوم الداخلة إلى البلد والتي تحمل بيانات نظامية صالحة وسليمة، لكن البعض يستورد لحوماً لا يوجد فيها شهادة جمركية ولا تراقب صحياً وغير صالحة منتشرة في المطاعم السياحية وهذه مسؤولية مديريات السياحة، أما بالنسبة للمطاعم الشعبية لا يوجد فيها أي نوع من أنواع الغشّ).
ضبطت مديرية تموين ريف دمشق كميات من اللحوم بيعت في سيارات متنقلة وأغلقوا عشرات المحال التي تبيع اللحوم المخلوط بعضه ببعض، وهنا ينوه مدير حماية المستهلك عماد الأصيل إلى الفرق بين اللحوم المهربة والمستوردة، ويعلن ثقته الكبيرة باللحم المستورد لكونه يستورد بإشراف وزارة الصحة والأوقاف ويكتب عليه بلد المنشأ واسم الشركة المستوردة: (اللحم المجمّد تستورده شركات سورية معروفة أما المهرب كله مغشوش للأسف لا يمكن السيطرة عليها).
ويضيف الأصيل أن المطاعم السياحية باتت تقوم في الآونة الأخيرة على استخدام أساليب غش واضحة ولا تراقب مطابخها إلا من جهات غير ملمة بآلية مراقبة اللحوم.
بين ثقة جهة ما باللحم المستورد وفقدان الثقة به من جهة أخرى، انقسم الشارع السوري بين من يؤيد استخدام اللحوم الهندية المجمدة والآخر يرفض قطعاً التعامل معها، فـ(أبو باسل) يتهم جاره على أنه يأكل اللحم الهندي ويستخدمه: (أعوذ بالله أن أدخل اللحم المجمد إلى منزلي وهذا رأي جيراني في الميدان وفي الجابية، يقولون إنه رخيص لكن العين تأكل قبل الفم).
يرفض أبو أحمد الامتثال إلى أحكام مطلقة ومعتقدات قديمة اختزنها غيره حيال اللحوم المجمدة (إنه حلال، كل سوريا أكلت منها بعلمها أو دونه، المطاعم تستخدمه بكثرة ونحن فقراء).
أصحاب المحال التي رفضت بيع اللحمة المستوردة وغيرها واقتصرت على بيع اللحم البلدي الطازج فهو فقط الصالح للاستهلاك البشري دون غيره: (قبل خمس سنوات لم نكن نسمع بأنواع كهذه، اليوم لا ندري أي لحمة تباع في الأسواق، هل السوق الحر يعني إدخال مواد مهربة غير صالحة).
برّر آخر: (من قال لك غير صالحة، هي رخيصة لكنها صالحة والتموين يعرف ذلك، هل تريد أن نشتري كيلو اللحمة بـ»800» ليرة سوريّة؟).
فعلاً، ما سبب هذا التوجه السوري الجديد إلى أنواع رخيصة من اللحم المستورد والمهرب؟ برأي تجار اللحمة، السبب يكمن في ارتفاع أسعار اللحم، وبالتالي انخفاض القدرة الشرائية ما يُجبر اللجوء إلى أنواع رخيصة، وبرأيي مديرة الأسعار وفاء الغزي (لوحظ استقرار وميل للانخفاض في أسعار مادة اللحوم خلال الأشهر القليلة الماضية مقارنة عما كانت عليه خلال نفس الفترة من العام الماضي).
وقد كانت الفترة الماضية هي فترة ولادات وتسمين وتوفرت الأعلاف الطبيعية مما جعل المربي يميل إلى تسمين أغنامه اعتماداً على العلف الطبيعي وتحضيراً لفتح باب التصدير، الذي يبدأ عادة في (1/4/2010)، مما أدى إلى نقص العرض في السوق المحلية وقد لوحظ مع بداية التصدير أنّ أسعار الذبح المحلي ارتفعت بحوالي (3 %)، إنما هناك بدائل أخرى مطروحة في الأسواق تتراوح أسعارها بين (200 - 300) ليرة سوريّة للكيلو غرام.
وإذا كانت المؤسسة العامة للخزن والتسويق تقوم بطرح كميات كبيرة من اللحوم (غنم عواس - العجل - الفروج) بأسعار تقل عن أسعار السوق فلماذا يشتكون من ارتفاع سعر اللحمة، فيما يردّ مصدر آخر سبب ارتفاع سعر اللحمة إلى استمرارية تصديرها ويطالب وزارة الاقتصاد بوقف عمليات التصدير لأنها أساءت للسوق المحلية.
حالياً إذا ما نظمنا استبياناً يوجّه إلى السوريين بغرض التعرف على آرائهم حيال اللحم المستورد لن نحصل على إجابة واضحة، فعندما تدل المؤشرات أنَّ أهم أربع تجار في البلد يستوردونه ويحققون أرباحاً كبيرة جرائه، نرى أيضاً أن الغالبية العظمى لا تعتقد به ولا تقبل عليه لأسباب شتى في مقدمتها عدم الثقة ببلد المنشأ.
منقول